المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما الأحاديث عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم، الدالة عَلَى الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، فمنها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: {أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك} الحديث أخرجاه في " الصحيحين" بطوله.
وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً " في الصحيحين" نظيره.
وحديث جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: {كنا جلوساً مع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة فقَالَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته} الحديث أخرجاه في "الصحيحين".
وحديث صهيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المتقدم، رواه مسلم وغيره.
وحديث أبي موسى عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلا رداء الكبرياء عَلَى وجهه في جنة عدن} أخرجاه في "الصحيحين".
ومن حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: {وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً، فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟! فَيَقُولُ: بلى يا رب} الحديث أخرجه " البُخَارِيّ" في " صحيحه".
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرَّسُول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء، وإذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إِلَى غير ذلك من الصفات التي سماعها عَلَى الجهمية بمنزلة الصواعق]إهـ.

الشرح:
الأحاديث التي تدل عَلَى رؤية المؤمنين لربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الدار الآخرة متواترة، قد رواها نحو ثلاثين صحابياً، وتواتر ذلك نقله التابعون وتابعوهم ومن بعدهم، واتفقت الأمة عَلَى ذلك إِلَى أن ظهر أهل البدع الذين لا يعتد بخلافهم، والإجماع أيضاً عَلَى فهم هذه الأحاديث متواتر، فكل السلف الصالح فهموا من هذه الآيات والأحاديث، حقيقة إثبات رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويكفينا ذلك دلالة عَلَى أن من خالف هذا الإجماع وهذا التواتر، أنه مكذب لله ولرسوله، وهو ضال مبتدع.
ولهذا عقَّب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في الأخير ببيان أن هَؤُلاءِ يقولون في دين الله برأيهم، وأنهم لا يتبعون الكتاب والسنة في ذلك،
فمن الأحاديث التي ذكرها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- الطويل في البُخَارِيّ في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] ونفس هذا الحديث يأتي في باب إثبات الرؤية التي أولها وحرفها أُولَئِكَ المبتدعة الضلال، وفيه: {أن ناساً سألوا النبي -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو العليم بربه- قالوا: هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟}.
جاءت برواية "تضارون" بالراء، وفي أخرى "تضامون" بالميم، ولا تعارض بينهما، فلعله لتعدد القصة، وكل منهما يدل عَلَى معنى صحيح، فقَالَ: {هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يارَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك......} ثُمَّ ذكر الحديث وهو حديث طويل.

ثُمَّ ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي يسمى حديث الشَّفَاعَة أو حديث الجهنميين، رواه أَبو هُرَيْرَة وأبو سعيد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأخرجه البُخَارِيّ ومسلم وهو حديث طويل يتضمن أهوال المحشر والموقف إِلَى أن ينتهي الأمر بالشَّفَاعَة وإخراج آخر أهل النَّار وهم المسمون "الجهنميون" الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الصالحين الذين يتحنن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم برحمته، ويشفعهم فيهم فيكونوا آخر أهلها خروجاً. وفي كل منهما إثبات رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأيضاً حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيحين قَالَ: {كنا جلوساً عند النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة، فَقَالَ لهم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر}، وهم أفهم النَّاس وأعلم الناس، وهذه إشارة وخطاب يفهمه البدوي والأمي الساذج لأنه كلام واضح، فليس هناك أي لبس يستدعي أدنى شبهة من التأويل أو من تحريف المعنى.
وحديث عدي ابن حاتم الذي أخرجه الإمام البُخَارِيّ -وهذا الحديث ليس فيه دلالة واضحة عَلَى الرؤية- يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وليلقين الله أحدكم يَوْمَ القِيَامَةِ وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فَيَقُولُ: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب}.
ويأتي إن شاء الله أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالمؤمنين؛ بل هو أقرب أن يكون في مخاطبة الكافرين المنكرين، وأما المؤمنون فمن فضل الله عليهم أنهم مقرون بالرسالة.

واستدل النفاة المعتزلة على نفي الرؤية بثبوت اللقاء من الله للكافرين والمؤمنين.
فقال بعضهم لأحد أهل السنة: أنتم تثبتون الرؤية؟
قَالَ: نعم.
قال فما تفعل بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبة:77]، فهَؤُلاءِ المنافقون نفاقاً أكبر، وجعل الرؤية لهم كاللقاء..

والجواب: أن اللقاء غير الرؤية، فاللقاء يكون للمؤمنين والمنافقين والكافرين، ولكن الرؤية أمر آخر ولا سيما رؤية النعيم، وأما الرؤية التي تحصل في الموقف والتي يكون المنافقون مشاركون فيها فهذه رؤية الاختبار والامتحان، سيأتي إن شاء الله ذكرها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يُكلم من شاء] فهذه الأحاديث تتضمن أصولاً عظيمة من أصول الصفات، منها الرؤية والكلام، والإتيان والعلو؛ لأنه كما مر أن الله تَعَالَى يكلم الأنبياء، ويكلم الصالحين، يقول: اذهبوا فأخرجوا من وجدتم فيه أثر السجود، فيعرفونهم بعلامة السجود، ويكون لهم علامة. يقول: هل لكم من علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن الساق، ففيه خطاب بين الله عزو جل وبين أهل المحشر، وفيه إثبات الرؤية والكلام، يكلم من شاء بما شاء، وفيه إثبات الإتيان، وأنه يأتي لفصل الموقف يَوْمَ القِيَامَةِ ((وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّاً)) [الفجر:22] فإنه يأتي إِلَى المحشر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بكيفية لا نعلمها، وفيه إثبات العلو، وأنه فوق العالم كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة:17].
  1. كلام الله يكون بصوت خلافاً لتعليق الأرنؤوط

    قَالَ: [وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب]. لكن في طبعة الشيخ الأرنؤوط بعد أن ذكر الروايات قَالَ: ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أو في حديث صحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث الذي رواه البُخَارِيّ تعليقاً بصيغة التمريض. وليس بنا ضرورة إِلَى إثباته.
  2. الرد على من أنكر الصوت من كلام شيخ الإسلام

    لأن هذا الشرح قد يلتبس عَلَى بعض الناس، ولأن المسألة أهم من قضية أن إنسان أخطأ أو اجتهد أو علق تعليقاً خطأً، أحببت أن أنقل إليكم كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مجموع الفتاوى (6/513) ورده عَلَى هذا الزعم بنفسه، -وهو نفي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بصوت- قَالَ: (.. وليس في الأئمة والسلف من قَالَ: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي، إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقَالَ: "يا بني هَؤُلاءِ جهمية، إنما يدورون عَلَى التعطيل".
    ثُمَّ ذكر بعض الآثار المروية في ذلك؛ أي: ثُمَّ ذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه بعض الآثار، وهي موجودة في كتاب السنة لـعبد الله بن أحمد.
    ثُمَّ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ مصدراً آخر قَالَ: ذكر ذلك البُخَارِيّ في كتابه " خلق أفعال العباد " وذكر أيضاً أن البُخَارِيّ ترجم لذلك في الصحيح الذي أنكره ونفاه الشيخ الأرنؤوط، قَالَ: وليس من طوائف الْمُسْلِمِينَ من أنكر أن الله يتكلم إلا ابن كلاب ومن اتبعه، يعني من الأشعرية، فنخشى أن يكون الشيخ هنا قد اتبع ابن كلاب في هذه القضية.
    يقول شَيْخ الإِسْلامِ أيضاً: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف -أي: في نفيه- وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة،
    ثُمَّ استدل شَيْخ الإِسْلامِ بأدلة أخرى:
    أولاً: ما جَاءَ في القُرْآن من آيات مناداة الله تَعَالَى للمشركين " وناداهم، ويوم يناديهم، ويوم يحشرهم فيناديهم...وما أشبه ذلك كثير في القُرْآن "، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: إن المناداة تكون بصوت مسموع يسمعه المخاطب، وغير هذا لا يمكن أن يتصور، فالمناداة إنما هي بالصوت والكلام.
    الأمر الثاني: تكليم الله تَعَالَى لموسى، فإذا كَانَ النداء والكلام بدون صوت، فما الفرق بين كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام وبين وحيه إِلَى أي نبي من الأَنْبِيَاء عن طريق الإلهام، أن يلهمه الله في قلبه كما قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ))[الشورى:51].
    فهو أحد الحالتين: إما الوحي، أو من وراء حجاب، وأما إرسال الرَّسُول فهو وحي غير مباشر، وأما الوحي المباشر فيكون بالإلقاء أو الإلهام إِلَى الرَّسُول من دون سماع للصوت من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من وراء حجاب أي كلام وصوت من غير رؤية، فحصل لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه نودي بصوت من غير رؤية، فإذا قلنا: لم يسمع موسى صوتاً، فالأمر كله إذاً من القسم الأول وهو مجرد الوحي ولم يسمع شيئاً.
    وهذا مما يدل عَلَى بطلان هذا الكلام الذي تكلم به الشيخ الأرنؤوط غفر الله له.
    وأيضاً يقول شَيْخ الإِسْلامِ: "إن السلف -المفسرين من السلف- اتفقوا عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى بصوت، وأيضاً من الأدلة ما جَاءَ في قوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سـبأ:23] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبه سماع الصوت كأنه سلسلة عَلَى صفوان.

    يقول: فمن أراد الوقوف عَلَى الحقائق، وأراد اتباع الدليل الصحيح، ومعرفة ما يصف به ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يدل عَلَى ذلك وما لا يدل، فليواظب عَلَى سماع الأحاديث النبوية، فهو الدليل والمنهج الصحيح الهادي إِلَى الرشاد في معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي معرفة الحلال والحرام والأحكام والآداب والفضائل والسنة.
    ففيها إثبات هذه الأحاديث التي إثباتها وسماعها على الجهمية، بمنزلة الصواعق؛ لأن القوم قد أعموا أبصارهم ولا يريدون أن يسمعوا بأي حال من الأحوال ما يخالف ما استقرت عليه قلوبهم المريضة وعقولهم الضالة.